زهير فياض
هل يستقيم المشهد العالمي دونما رؤية الواقع القومي في صلب بنيانه؟ هل قراءة المستجدات والتطورات التي شهدها العالم منذ عقود تصح خارج مشهدية التموضع القومي لشعوب وأمم تشكل ديناميات التغيير؟ ما هي معالم النظام العالمي الجديد المستقبلي انطلاقاً من حقائق الصراع حول العالم؟
أسئلة كثيرة تُطرَح، تفترض الكثير من الدرس والتمحيص والتعمق في قراءة الاشكاليات القائمة في الاطار الواقعي، هذه الاشكاليات التي تفرضها سياقات الأحداث ومآلها الأخيرة بعيداً عن الاستسلام للأطروحات “الأحادية” المجتزأة التي لا تأخذ بعين الاعتبار كل الجوانب المتعلقة بالظاهرة القومية منذ نشوئها الى وقتنا الحاضر.
طفت على السطح في العقدين الماضيين شعارات العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، وتم التسويق لفكرة سقوط العوالم القومية والذاتية للشعوب والأمم، وانهيار الفواصل والحدود في الثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية والاعلام، وبات النظر الى المسألة القومية باعتبارها شيئاً ماضوياً تخطاه الزمن…
كل هذه الوقائع تدفعنا الى اعادة النظر في عمق المسائل، والولوج الى عمق القضايا المطروحة لتصويب المفاهيم ومقاربة الأمور على قاعدة علمية موضوعية تأخذ بعين الاعتبار كل العوامل المساعدة على تشكيل رؤية حقيقية شاملة ومعمقة حول طبيعة القومية كظاهرة وكدور في الواقع العالمي المعاصر.
تكتسب المسألة القومية في هذه اللحظة التاريخية أهمية عالية في كونها المرتكز لفهم الكثير من الديناميات التي تحرك الواقع العالمي المعاصر على مدى اتساع قاراته، وفي كونها القاعدة الأساسية لفهم هذا الواقع المتشعب والمركب بما يتضمنه من تداخلات وتشابكات وعوامل وعناصر وأسباب تؤثر على مآلات الأحداث حول العالم، وكل الدعوات السطحية والشعارات الفضفاضة التي تم تسويقها ابتداءً من نهايات العقود الأخيرة من القرن العشرين ومع بدايات القرن الواحد والعشرين لم تستطع اسقاط العامل القومي ولا تهميشه أو حتى تسطيحه، وبقيت الحقيقة القومية الانسانية الأقوى والأفعل والأكثر حضوراً بالنظر الى كونها تستند الى حقائق علمية تاريخية جغرافية سياسية اقتصادية اجتماعية لا امكان لاغفالها أو اختزالها بشعارات مثل العولمة وفتح الحدود والفضاء العالمي الجديد والقرية الكونية الواحدة، اذ أن كل هذه الظاهرات تمت مقاربتها من زوايا لا تقارب القواعد الأساسية التي ارتكزت عليها وانطلقت منها وشكلت الرافعة لها على مستوى العالم.
ان التمعن بعمق في واقع العلاقات القائمة بين الدول والشعوب في الألفية الثالثة يدل على تجذر الواقع القومي وعلى عمق الظاهرات التي تتأسس عليه من مصالح قومية سياسية اقتصادية لشعوب وأمم تحاول أن تكون فاعلة في صياغة القرار العالمي أو المشاركة –على الأقل – في ادارة هذا العالم، ويبدو واضحاً أن تشابكات العلاقات الفوق – قومية لم تتأسس على فراغ، بل ارتكزت على الواقع القومي وعلى المعطى التاريخي – الجغرافي – الجيو-سياسي الذي شكل على الدوام نقطة الانطلاق باتجاه اختراق الحدود القومية الطبيعية، وتحقيق فاعلية ما فوق قومية، سواء على مستوى الاقليم أو على المستوى العالمي بشكل عام.
هذه الحقائق تبدو واضحةً في التشكيلات السياسية والاقتصادية من أوروبا الى أسيا الى أفريقيا الى أميركا وأوستراليا وغيرها من المناطق حول العالم، فكل هذه البنى هي ذات جذور قومية في الارتكاز وفي التوسع والتمدد وتفعيل الدينامية القومية في المجال الفوق قومي، هذا يبدو جلياً في الأسباب والنتائج المترتبة على هذه البنى وعلى مختلف المستويات.
بيد أن المسألة الأساسية التي من المفترض أن تؤخذ بعين الاعتبار هي مسألة المفهوم القومي؟ مفهوم الأمة؟ مفهوم الهوية؟ والمفاهيم المتعلقة بالبنى الثقافية والحضارية التي تعطي للقومية أبعادها الحركية في صياغة الحاضر والمستقبل على قاعدة الماضي والتاريخ الذي تشكلت فيه.
نحن أمام حقيقتين لا بد من التوقف عندهما في سياق فهم الظاهرة القومية على ضوء طبيعتها ومضامينها وواقعها السياسي الاجتماعي الثقافي الاقتصادي:
الحقيقة الأولى: عندما تحقق الأمة في سياق تاريخي طويل الأمد وحدتها القومية، المتمأسسة على وحدة الحياة في دورتها الاقتصادية – الاجتماعية الواحدة، فهي تتحول الى وعاء او اطار يستوعب كل المكونات الأساسية من عناصر تتفاعل في ما بينها لتشكل جسماً جديداً ذي خصائص موحدة تتشكل منها معالم الهوية في جوانبها المختلفة. فتطغى الشخصية القومية الجديدة على الشخصيات الجزئية الأولية التي تتحول الى شيء ماضوي لا قيمة له في الواقع الحياتي الراهن، بل يغدو جزءاً من التاريخ الحي للأمة في شمولية حقباتها المتتالية عبر التاريخ.
وتكتسب الأمة في دورة حياتها الواحدة مناعة ذاتية تجعلها قادرة على مواجهة واجهاض كل مشاريع التفتيت والتقسيم والشرذمة، وتصبح العودة الى الوراء ولو تخيل البعض أنها ممكنة، تصبح نسجاً من الخيال، فالتفاعل الايجابي بين الانسان والانسان، وبين الانسان والبيئة هو تفاعل يسير بوتيرة مضطردة الى الأمام، الى توسيع دائرة التفاعل، لتشمل البيئة الطبيعية كلها، أو حتى الى تخطي حدود هذه البيئة بالارتكاز طبعاً الى هذه الفاعلية التاريخية المتأتية من البنية الجديدة المتكونة في سياقات التفاعل الآنف الذكر. هذا هو قانون التفاعل وهذه هي معطياته الفاعلة في الحاضر والمستقبل. لذا عندما نقارب المشكلات والأزمات التي تعصف في بلادنا منذ عقود الى يومنا هذا، تتكشف لنا في نطاقات الصراع ذاته، حقائق جديدة تؤكد حتمية الانتصار والنهوض، وتؤكد صلابة البنية القومية في مواجهتها لكل التشققات الداخلية ولكل الانقسامات والانشطارات سواء العامودية منها، أو الأفقية وهذا ما يجعلنا نمتلك شيئاً من اليقين بالقدرة على التغلب عليها ودحرها وتوكيد وحدة الأرض والانسان على أرضية الصراع الحقيقي ومهما طغت موازين قوى لا تخدم مصالح وحدتنا القومية العليا.
الحقيقة الثانية: أن الفاعلية التي تتخطى الحدود القومية سواء في الجغرافيا أو في السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها لا بد لها كي تثبت أن ترتكز على القاعدة القومية الأصلية التي انطلقت منها، والا انهارت وسقطت في معترك الواقع الصراعي سواء في الاقليم أو في العالم.
وأي مقاربة عميقة وجدية للقواعد والأسس التي ارتكزت عليها البنى فوق – قومية تبين عمق جذورها القومية سواء الاتحاد الأوروبي الذي نشأ على قاعدة تأمين مصالح أطرافه القومية، وعندما تهتز هذه المصالح نرى اهتزازاً لبنية الاتحاد ككل، ولعل الاستفتاء الأخير في بريطانيا حول البقاء أو الخروج من الاتحاد لدليل واضح على حجم تأثير العامل القومي على استقرار البنى الفوق – قومية، وهذا ينطبق على البنى القائمة في أميركا اللاتينية وغيرها من المناطق حول العالم.
ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات وخروج العديد من الجمهوريات من نطاقه، يدل في العمق على مآزق قومية تتمثل في حالة القمع وعدم ارتكاز الاتحاد نفسه على مبدأ حق تقرير المصير لشعوب الجمهوريات التي كانت داخلة في نطاقه.
كل هذه التجارب تدل على ضرورة أخذ المعطى القومي بعين الاعتبار تفادياً للتعثر وللفشل في مراحل لاحقة.
فالمسألة القومية لها مرتكزاتها العلمية المرتبطة بعلم الاجتماع الحديث، من حيث نشأة الأمة وتشكل الهوية وظهور الشعور القومي لدى الجماعة القومية بانتمائها الى وحدة التاريخ والجغرافيا ودورة الحياة الواحدة الموحدة لكل الأمة في سياقاتها ضمن اطار الزمان والمكان، وترسخ البنية القومية الاجتماعية في الواقع الحي ثقافةً وتقاليد وعادات وقيماً ومناقب روحية وتكاملاً اقتصادياً يشمل كل البيئة الطبيعية وفي حقبات تاريخية جد متأخرة.