زهير فياض
المشهدية “الواقعية” تنطلق من رؤية علمية لواقع العالم كما هو، والعالم كما هو مجموعة أمم وشعوب وبيئات وجغرافيات تشكل القواعد والأطر والأوعية لحركة الأمم والشعوب حول العالم، وهي تؤمن الشروط الواقعية والموضوعية للنمو والتطور على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية اضافة الى غيرها من الجوانب الروحية والحضارية والقيمية التي تولد من رحمها لتعطي لها خصائص وميزات وصفات تتوارثها جيلاً بعد جيل، فتنشأ الهويات القومية ويتأسس الوعي القومي الانساني على مجموعة العوامل المتشكلة في مسار تاريخي طويل.
هل التطورات العلمية الحاصلة ألغت هذه الحقائق الاجتماعية الكبرى؟ هل تطور وسائل التواصل بين الشعوب والأمم والحضارات ألغت القواعد الأساسية للاجتماع البشري؟ هل تطوير آليات التلاقح الثقافي والحضاري بين الأمم ألغت الفوارق الثقافية بينها؟ هل تحول العالم –كما يتم التسويق- بالفعل الى “قرية كونية واحدة”؟
هذه أسئلة منهجية ضرورية، سنحاول الاجابة عليها نظراً لخطورتها وتأثيراتها وتداخلاتها وتشعباتها وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على الواقع المعاصر.
يقول أنطون سعاده في كتابه “نشوء الأمم” ص.60 “البيئة والجماعة”: ” ان تقسم الأرض الى بيئات هو السبب المباشر لتوزع النوع البشري جماعات، فالبيئة كانت ولا تزال تحدد الجماعة، لأن لكل بيئة جغرافيتها وخصائصها، فلو أن الأرض كانت سهلاً منبسطاً في درجة واحدة من الحرارة والرطوبة، خالياً من الحدود الجغرافية من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهي أن يؤدي انتشار النوع البشري فيها الى انشاء جماعة واحدة كبيرة. ولكن الحدود الجغرافية الطبيعية جعلت انتشار الانسان في الأرض موافقاً للبيئات الجغرافية، التي لولاها لما استطعنا تفسير ظواهر المدنيات المختلفة.”
أي أن قواعد التنوع على مستوى الهويات والقوميات والأمم هي قواعد طبيعية جغرافية لا امكانية لتخطيها أو القفز فوق حقائقها، أما مسائل التطور العلمي فهي تنطلق من الواقع الطبيعي لتحقق أطروحاتها من رحم هذا الواقع، باتجاه تطويره في الشكل والاطار العام، أما المضمون والحيثية الذاتية لا يمكن تهميشها، فهي الحقيقة الأكثر حضوراً. وهنا تُطرح أسئلة :
هل تسارع وتائر التفاعل الحضاري بين الأمم ألغى خصوصيات هذه الأمم؟ أم أنه ارتكز على واقع هذه الخصوصيات لتشكيل خصوصية ما عالمية مشتركة تعكس ذاتها في الوعي الانساني؟
سؤال مركب ومعقد، الاجابة تتطلب رصداً لتحولات العقود الأخيرة ومحاولة استخلاص العبر وانتاج دروس مستقاة من هذه التحولات.
ان تطور وسائل التواصل وتقنيات الاتصال ووسائل المواصلات كلها عوامل ساعدت بطبيعة الحال على ردم الفجوات “الجغرافية” التي كانت تشكل فواصل طبيعية تعيق عملية التفاعل، ولكن وبالرغم من التطور الحاصل في وتائر ومستويات التفاعل، بات ثابتاً أن الهويات “القومية” والحاويات الحضارية “القومية” تشكل الأساس أو طبقة أساسية يرتكز عليها كل هذا البنيان الحضاري العالمي، أي بكلام أخر حافظت الانسانية في عوالمها القومية على خصائصها ومزاياها ومصالحها السياسية والثقافية في “هويات قومية ارتكازية”، في ما أنتج هذا التواصل الفوق – قومي وعياً ما عالمياً أو “هوية ما معولمة” ولكنها ما زالت هويةً مترجرجة، غير واضحة المعالم، مهتزة غير مستقرة، ولعل الأسباب الحقيقية وراء عدم استقرارها هو محاولتها الابتعاد عن قواعد “الهويات القومية” التي انطلقت منها، بمعنى أخر، هذه الهوية “المعولمة” المركبة ما زالت وستبقى في المدى الطويل المنظور وغير المنظور وانطلاقاً من حقائق علم الاجتماع الحديث هوية متناسلة من رحم “الهويات القومية”.