د. منير سعيد مهنا
(أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية)
من خصائص علم الاجتماع أنه في ماهيته علم “استفهامي”، يبدأ بالملاحظة اليقظة للظواهر الاجتماعية ليبني على أساسها تساؤلاته وإشكاليته وفرضياته، ولا يكتفي بأسئلة من نوع “ماذا؟ ولماذا؟”، بل يتعداها الى السؤال عن “كيف؟” ليستقيم التفسير ويتوضّح المعنى وتنجلي الدلالة. وعلم الاجتماع هو أيضاً علم “نقديّ” يعتمد على التفكيك والتحليل في بناء المقولات المعرفية على ضوء ما تكشفه الوقائع السوسيولوجية بعد أن تخرج عن عموميّات التفكير الشائع ودوغمائيّاته المسيطرة على الفهم في مجريات الواقع الاجتماعي.
ولأن هدف العلم تنظيم المعرفة حول الموضوعات التي يدرسها، فإن الاشتغال في علم الاجتماع يتطلّب من العاملين في هذا الحقل المعرفيّ أن يكونوا بادئ ذي بدء على سعة اطلاع تؤهّلهم لالتقاط ما يختزنه الواقع من ممكنات ورهانات وما يواجهه من معضلات وتحدّيات، ومحاولة ترسيمها في شبكة معرفيّة تسمح بقراءة المشهد الاجتماعي ورسم مآلاته. وبالتالي الخروج بالفكر من ضيق الممكن الى رحابة الإمكان.
إن المهمة المعرفية للباحث السوسيولوجي لا يجب أن تقف عند حدود النظريات والمفاهيم الوافدة من تاريخ المعرفة السوسيولوجية ومنظّريها، وإنما أيضاً من منظور ارتباطه بمشروعه البحثيّ وصلته بهموم المجتمع الذي ينتمي إليه وإشكالياته، وذلك حتى يتمكّن من بناء معرفة تسهم في استكشاف الذات واتصالها أو تمايزها معرفياً عن غيرها من المعارف الأخرى.
إن محاولة الإحاطة بالإنتاج المعرفي عند سعاده وما وضعه على المستوى الفكريّ العقائديّ – يستحقّ دراسة جديّة وبحوثاً متخصصة. فسعاده بسعة معرفته ومنهجية تفكيره وانهمامه بقضايا أمته وشعبه، كان “المعلم” بكل ما تعنيه الكلمة من قدرة على إرساء المعرفة على قواعد جديدة، وفتح آفاق معرفيّة لم يسبقه إليها أحد من العاملين في شؤون الفكر وقضايا الشأن الاجتماعيّ، وبحق يمكن اعتباره من أهمّ روّاد الحداثة المعرفية في عالمنا العربي.
في مقالتنا هذه سيقتصر بحثنا فقط على توصيف بعض الأبعاد المنهجية في البناء الفكري عند سعاده، وبالتحديد على جوانب من مساهمته في المجال السوسيولوجي.
المعرفة السوسيولوجية عند سعاده: منطلقها وغائيتها
1- إن علاقة سعاده بالسوسيولوجيا يمكن تضمينها تحت عدة مندرجات منهجيّة، ولعل من أهمها المندرج المنهجيّ لسوسيولوجيا المعرفة الذي يهتمّ برصد نشأة الأفكار وتطوّرها التاريخي والعلاقة مع “الأطر الاجتماعية” المنتجة لها أو الواقع الاجتماعي الذي يحيط بها.
فأعمال سعاده وأبحاثه الفكرية كانت تستهدف السير بالمجتمع نحو حداثته، وتفكيك المعيقات المعرفية التي تحول دون ذلك، فالمعرفة والفهم كما يقول سعاده “هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى إلى تحقيقه”. (المحاضرة الأولى، 1948). وهذا التشديد على ضرورة المعرفة والفهم يأتي برأينا من وعي سعاده لطبيعة المعرفة القائمة في المجتمع والتي هي من نتاج “العقل القياسي” العاجز عن إنتاج المعرفة من دون نموذج أصلي ليقيس عليه، سواء بالعودة الى نموذج ماضوي (الدين والعادات والتقاليد) أو بالاغتراب عن واقعه والقياس على نموذج مستحدث لواقع مختلف (تقليد النموذج الغربي). وفي كِلا النموذجين لا يستطيع العقل القياسي أن ينتج ويستحدث ويبتكر معرفة تخصّه أو تنبعث من خصوصيات واقعه الاجتماعيّ.
وبناءً عليه، فإن أول سمة من السمات التي تميّز فكر سعاده كمعلم ومفكّر وباعث للنهضة هو “العقل الابتكاري” القادر على التمييز والتصنيف باعتماد قواعد البرهان المنطقي والعلمي في إنتاج المعرفة الناجعة لمجتمعه وفهم حقيقة هذا الواقع الاجتماعي. وتلك خاصيّة من خصائص علم الاجتماع.
ولذا نجد أن مطلب سعاده في منهجيته السوسيولوجية كان غائياً بامتياز، فقد اعتمد على المقاربة النقدية من أجل إحداث التغيير الاجتماعي الذي يسعى إليه، ومواجهة المعرفة المهيمنة في مقولات “العقل القياسي” بنماذجه ومرجعياته التقليدية و/أو المغتربة، وذلك باستخدام مقولات معرفية جديدة صاغها سعاده بعقله المبتكر لإعادة تنظيم المجتمع وخدمة لمصالحه.
2- إن النهضة التي أعلن أنطون سعاده قواعد انطلاقها وآليات إشتغالها في 16 تشرين الثاني 1932 كانت المدخل المعرفي /العملاني للسير بالمجتمع الى الحداثة والتنمية والتغيير. وهي بمرتكزاتها الفكرية أحدثتْ تحولات ثلاثة:
1- أعلنت عن تحرير الفرد من ربقة الموروث المريض وتقاليده البالية ليكون من أبناء الحياة المنتمي الى الفعل بما يمتلكه من قدرة وامكانية. وحرّرته من الأنا الفردية القاتلة ليكون منسجماً مع حقيقة وجوده ككائن – مجتمعي.
2- أكّدت على فعل العقل والعقلانية في إدارة قضايا الإنسان ومشكلاته، من خلال الدرس والتمحيص والخطط والبرامج، واستحدثت لأجل تحقيق تلك الإدارة مؤسسات هي الحزب السوري القومي الاجتماعي باعتباره المسؤول عن تحقيق مراميها وغاياتها.
3- جعلت من الحريّة قيمة عليا تعلو على أي قيمة أخرى، فمسارها هو بالحرية ولأجلها، فكانت وما زالت حركة تحرير للإنسان والمجتمع والأمة.
فالعقلانية والنظام والحرية، كانت ثلاثيّة أقانيم الخطاب عن النهضة/ الحداثة التي سعى إليها سعاده لتحرير الإنسان في مجتمعه من سطوة الأنساق المعرفيّة التي تشلّ قدراته وتأسره في بنى اجتماعية ومعرفية معيقة لنموه الإنساني، ولعل من دلالات معنى الحرية، برأينا، كما أرساها سعاده معرفياً هي الدلالة على فعل التحرر من الأوهام بمعرفة الحقائق الثابتة.
إن اعتماد الفهم العقلاني للواقع المجتمعي عند سعاده هو المرتكز المعرفي الأول في رؤيته لمعنى النهضة، باعتبارها نهضة العقل أولاً وأخيراً، إذ حين يُهزم العقل أمام العصبيات اللاعقلانية يخضع المجتمع للجهل والفوضى وتذهب كل الجهود في سبيل تطويره وتقدّمه هباء، وتصبح مواجهة الاستعمال الفاسد للسلطة أمراً مستعصياً لا تجدي معه الحجج والبراهين التي يقّدمها فعل التفكيك والكشف باعتبارهما من أساليب التفكير العقلاني ومن مرتكزات المنهج النقدي في الممارسة السوسيولوجية. وبالتالي يصبح المجتمع فاقداً حالة الوعي بالزمن وسيرورته التي تحتم فعل التغيير.
المبحث العلمي في كتاب “نشؤ الأمم “:
يقول سعاده في توصيفه لكتاب نشوء الأمم: “إنّ نشوء الأمم كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظريّة وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّةً المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها”. (نشوء الأمم، المقدمة، 1937).
بناءً على توصيف سعاده لكتاب نشوء الأمم، وفي محاولتنا لتحديد بعض جوانب مساهمته في المعرفة السوسيولوجية التي أوردها في كتاباته ومحاضراته يمكننا الإشارة الى النقاط الآتية:
1 – إن كتاب “نشوء الأمم” يمكن اعتباره من أهم البحوث الاجتماعية الهادفة الى إنتاج معرفة علمية ذات كفاءة ودقّة وقدرة على الكشف عن حقيقة الترابط القائم بين النشاط الإنساني (الفعل) من ناحية وجوانب البناء الاجتماعي (النسق أو النظام ) من ناحية أخرى، والتأثيرات المتبادلة بينهما.
2- إن أسلوب التحليل الذي اعتمد عليه سعاده في مقاربته السوسيولوجية كان على مستوى التحليل الكلي (الماكروي /Macro) للواقع الاجتماعي.
3- في البعد التنظيري قدّم سعاده رؤيته النظرية العامة عن “التفاعل و/أو الاندماج الاجتماعي” مستخدماً أسلوب “الاستقراء التحليلي” في محاولة رصده لأشكال التنظيم الاجتماعي المهيمنة (الطائفية، القبلية على سبيل المثال) وتأثيراتها على الأنشطة الاجتماعية للأفراد والجماعات الاجتماعية في الواقع الاجتماعي عامة.
4- إن ما ورد من مباحث في كتاب نشوء الأمم يدل على محاولة علمية أصيلة لفهم وتفسير طبيعة العالم الاجتماعي في البيئة الطبيعية للأمة سورية، وكيف ينعكس تنظيم المجتمع على واقع الحياة الاجتماعية والتأثير المتبادل بينهما. والمعرفة التي يقدمها سعاده في هذا البحث السوسيولوجي مبنية على البعد الفلسفي لنظرية المعرفة عنده بما هي العلاقة بين الوجود والإدراك.
ابتكار وتحديد المفاهيم والمصطلحات:
مما لا خلاف بشأنه أن لكل حقلّ معرفي مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، وما يميز سعاده في حقل المعرفة السوسيولوجية أنه استطاع أن يبتكر مفاهيم ومصطلحات جديدة، شكّلت بمجملها شبكة متكاملة ومتجانسة في منظومته الفكرية، كانت وما تزال قادرة على فهم بنية الواقع الاجتماعي وتفسير معضلاته وإشكالياته.
إن من شروط المنهجية العلمية في البحث عامة، وكذا في البحوث الاجتماعية، أن يقف الباحث على تحديد المفاهيم والمصطلحات التي يستخدمها في بحثه، وغالباً ما يجد الباحث نفسه أمام مفاهيم يصعب حصرها وتحديدها لكثرة التعريفات التي أعطيت لها. ومما لا شكَّ فيه أن كل تعريف لا يتّم الاتفاق على معاييره المحدّدة لمعناه يبقى عصياً على التحديد والوضوح.
هذا الإشكال المنهجي في تحديد المفاهيم والمصطلحات استطاع سعاده كمفكر وباحث سوسيولوجي أن يتجاوزه بحواره ومقارباته النقدية مع المفاهيم التي كانت سائدة في زمنه (مفهوم الأمة، القومية، الدين، الدولة، النهضة وغيرها من المفاهيم ) وأن يصل إلى ضبطها وإعادة تعريفها والفصل والتفريق في أبعادها ومضامينها لتكتسب دلالات معرفية وعلائقية تنبع من النظرة الاجتماعية الجديدة التي قدّمها سعاده.
ومن هذه المفاهيم والمصطلحات على سبيل الذكر لا الحصر :
الأمة:
– “الأمّة جماعة من البشر تحيا حياةً موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات”. (نشوء الأمم، ص 178).
– المتحد الاجتماعي :
المتّحد الاجتماعيّ ليس مجرّد أوصاف أو مصالح، بل هو أمر واقع. هو جماعة من النّاس تحيا حياةً مشتركةً في بقعة معيّنة ذات حدود. (نشوء الأمم، الفصل السابع).
– النهضة:
“إنّ النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو: خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد، إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية ـ إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم”. (المحاضرة الأولى، 1948).
– القومية:
” القوميّة، إذن، هي يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها. إنّها عصبيّة الأمّة. وقد تلتبس أحياناً بالوطنيّة الّتي هي محبّة الوطن، لأنّ الوطنيّة من القوميّة ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمّة وأهمّ عنصر من عناصرها. إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ بالنّظر لدفع الأخطار الّتي قد تحدق بالأمّة ولتوسيع مواردها، الموجد الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة بالتّعصّب لهذه الحياة الجامعة الّتي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه. (نشوء الأمم، الفصل السابع).
وفي الخلاصة التي نراها، أن الغاية من مباحث سعاده الفكرية والعقائدية، أنه كان النبيء في أمته، وأن المواجهة الفكرية التي أقامها مع شتّى الرجعيات الفكرية، كانت في عمقها مواجهة بين حالتين متناقضتين، وبين هويتين فكريتين لكل منهما تمثّله عن الواقع الاجتماعي. وهذا ما استوجب منه أن يضع منظومة فكرية – عقائدية لبناء “إنسان مجتمع النهضة” فكانت له جملة من المرتكزات والمفاهيم الجديدة التي أتى بها ليعيّن حدود الاختلاف بين حالتين: حالة إنسان ما قبل النهضة وما بعدها. معلناً الصراع الشامل بين حركة النهضة بثقافتها وقيمها وأهدافها وتنظيمها وما هو قائم ومسيير لحركة الرجعيات الفكرية ومؤسساتها وسلطاتها. ولنا في قوله ما يستحثنا دائماً على البحث والتفكير حين يقول: “إن الحركة القومية الاجتماعية هي حركة صراع وتقدم لا حركة استسلام وقناعة.” ولسنا بمتنازلين.
26/9/2023
Email: mounir064@hotmail.com